معتقدات وعادات متعلقة بمرحلة الزواج - الجزء الاول
يافع الحدث : المؤلف ناصر الكلدي
مَدْخَل: كان النّاس في يافع يحرصون على تزويج أولادهم في سن مبكرة ولا يتركونهم إلى ما فوق سن العشرين إلا ما ندر، ويعتقدون أن الزواج هو نصف الدين، لذلك تراهم يقولون للمتزوج حديثًا: (أكملت نصف دينك) . ويعتمد الزواج في يافع على أعراف وأسلاف معروفة حفظها القدماء ظهرًا عن قلب، ولكننا هنا لسنا بصدد ذكر تلك العادات بالتفصيل؛ لأن ذلك يحتاج إلى حيز كبير سيجنح بسفينة موضوعنا الأصلي إلى مواضيع أخرى، ولكننا سنأخذ ما يتناسب مع موضوعنا في هذا الكتاب، ولا باس أن نعرِّج باختصار شديد على الأمور ذات الارتباط بما سيذكر.
(1/100)
فعندما يقع الاختيار المبدئي على بنت معينة، وذلك نتيجة أن الولد قد رأى تلك البنت وهذا شيء طبيعي في تلك الأيام لعدم احتجاب النساء عن الرجال، وكانت النّساء والبنات يخرجن للعمل والرّعي وجلب الماء والأعلاف والحطب وغيرها من الحاجات ومعهن الحجاب الذي يغطي الرّأس وأجزاءً من الوجه، مع استعمال بعض المساحيق التي قد تحجب الوجه بصورته الطّبيعية، ونتيجة للرابطة القوية التي تجمع أبناء القرية الواحدة التي يشعر كل فرد فيها أنه ابن تلك العائلة الكبيرة، وكذلك سهولة التمييز بين المرأة المتزوجة التي عادةً ما كانت تتضح سماتها من خلال (النّبعة) (1) أو (القُصَّة) كما تسمى في بعض المناطق، والنّقطة التي كانت تُرسم في أعلى الوجه مقابل الأنف. طفلة عليها نموذج من الزي التقليدي النّسائي وفي الصّورة تبدو (النّبعة) في أعلى الوجه __________ (1) النّبْعِة: شعر في مقدمة الرّاس يلف بعناية بعد دهنه ببعض المساحيق المعروفة، وتكون النّبعة بارزة باتجاه الوجه تدل على المرأة المتزوجة.
(1/101)
وفي بعض المناطق كانت البنت لا تلبس الحجاب التقليدي على رأسها بل تترك رأسها مكشوفًا للاستدلال على أنها لم تتزوج بعد. وتبدأ فيما بعد إجراءات التشاور، فيبدأ الكلام بوساطة النّساء فإذا ما وصل الخبر إلى البنت ووافقت مبدئيًا (أي أنها تكون راضية من غير أن تصرّح بذلك) وبذلك تفهم الأم أن ابنتها موافقة لكنها لا تريد استباق أبيها وأمها، فيعود الخبر إلى أهل الولد أن البنت تقول كلموا أبي، فيتم التشاور مع أبي البنت وإعلامه باسم الشخص الذي يريد طلب ابنته ويتم ذلك بواسطة شخص وسيط يسمى (الذَّرِيْع) ، فيخبره الأب بأنه سوف يعود إلى أهله وسيرد له الخبر خلال أيام، فإذا كان رد الأب بالموافقة يتم تحديد ليلة معينة لكتابة ما يسمى (الشاهد) (1) وهو اتفاق أولي مكتوب يوضح الموافقة ويلزم الحريو بأن يتكفل بـ (الصّيبة) (2) ، وبعد كتابة (الشاهد) يتبادل أبو الحريو وأبو الحريوة (3) الجنابي كتعبير عن الرّابطة الجديدة، وهذا يحصل في بعض المناطق دون غيرها. __________ (1) الشاهِد: اتفاق كتابي أولي بشأن الخطوبة، ويسمى في بعض مناطق يافع (السَّداد) ، وفي مناطق أخرى يسمى: (الاتفاقيَّة) . (2) الصّيبة: هي أن يبدأ الحريو من تاريخ كتابة الشاهد بإرسال ما تحتاجه العروسة من كماليات بسيطة كالزيوت و (الهرد) و (الورس) والعطر وغيرها من الأشياء وكلٌّ حسب مقدرته. وتنطق في بعض المناطق (الصَّيْئِبة) ويبدو أن أصل الكلمة (الصائبة) ، فسهلت الهمزة ونطقت ياء على مقتضى اللهجة في يافع. (3) الحريو: العريس، والحريوة: العروسة.
(1/102)
أمّا (الحريوة) ففي هذه المدَّة تدخل في ما يسمى (الخُبُؤ) (1) ، وهو أنها تقلل من الخروج والظهور أمام النّاس الآخرين، وتكون في أكثر أوقاتها داخل بيتها لا تخرج إلى الشمس، ولا تخرج في الليل لاسيما وقت المغرب، وإذا اضطرت إلى الخروج فعلى أحد محارمها مرافقتها خوفًا عليها من أن (تُخْطَر) (2) ، ولا تستعمل العطور بكثرة في مدّة (الخُبؤ) ، وإذا رأت خطيبها فإنها تهرب منه حتى لا يراها نهائيًا، بعكس ما كانت عليه قبل الخطوبة، وأما (الحريو) فيستمر على هذا الحال من (التَّصْييب) حتى يرى أنه قد جهّز نفسه للزواج وأنه أصبح قادرًا على دفع المهر والقيام بنفقة الزواج. ويقال إنه عندما تجتمع الأسرة وتبدأ التفكير بإحدى البنات، ووضعها نصب أعينهم، فيخرج عائل الأسرة كالأب أو من يعولهم ليستفتح في مسألة الحدث الجديد، فيقْدِم على عمل معين فإن رأى في هذا العمل يسر وتسهيل أيقن في نفسه أن تلك البنت التي فكروا في خطبتها سيكون مدخلها مدخل خير، وأن رأى في هذا العمل الذي أقدم عليه مشقة وعسر وعدم تيسير أيقن في نفسه أن القدوم على تلك الخطبة غير صالحة وأن الأمر فيه تعاسة من بدايته فيعدلون عن خطبة تلك البنت ويبحثون عن غيرها، وقد يكون العمل المستفتَح به بيعًا أو شراءً في أي جانب، وقد يكون بملاحظة ما ستحول إليه أمور الأسرة، فإذا سارت أمورها إلى الأحسن فهذا دليل خير، وأمّا إذا حصل تعسير لأي من أمور الأسرة أو كثر المرض أو ساءت الأحوال فإن ذلك له ردَّة فعل من تلك الخطوبة فيتشاءمون منها. ويقولون في الأمثال: "خيول واذيول وامساكن تحلّون". ومعناه أن مقومات الإقامة في مكان ما ثلاث: الزوجة القوية التي هي كالخيل، والذرية الصالحة منها (الذيول) ، والمسكن الجيد الصالح للحلول فيه. __________ (1) أي الاختباء والتخفي من الناس. (2) تُخْطَر: تتعرض للخطر من مَسّ الجِنّ.
(1/103)
وعندما يستتب الأمر ويرى أهل العريس أنهم جاهزون للزواج يذهبون (للتَّسْويع) ، و (المسوّع) : هو شخص يدّعي معرفته بطوالع النّجوم وعلاقتها بالأيام، وأشياء أخرى تدخل في حسابات ذلك الشخص، فيقول لهم إن السّاعة الحَسينة (المناسبة) ستصادف يوم كذا وكذا، ويحذرهم من أيام معينة يرى أن تلك الأيام سيكون فيها النّجم مواجه أو ما شابه ذلك... وعند تحديد يوم الزفاف يبدأ التحضير الحقيقي للدخول في مراسيم الزواج. وفي يافع لا يحضُر الزواج إلا مَن كان مدعوًّا، فلذلك يقوم أهل العريس بإرسال شخص معين يسمى (المُعْلِم) فيُعلم الشخصَ الذي أراده أهلُ العريس أن يحضر، فإذا حضر ذلك الشخص فإنه يأتي معه (بالرّفيدة) (1) وهي مبلغ من المال بحسب استطاعته أو تيوس أو كباش أو ربما (رَضيع) (2) بقر، وهكذا يدور (المعْلِم) على جميع من قصدتهم أسرة العريس. وفي الوقت الرّاهن ترسل بطاقة دعوة إلى المعنيّ بالدعوة، وعندما يصله يعرف أن عليه الذهاب برفيدة، وهذه الطّريقة تساعد في حساب العدد الذي سيحضر للضيافة مع وضع احتياط بسيط. __________ (1) من الرِّفد وهو العطاء والصلة. (2) رضيع البقر: العجل الصغير.
(1/104)
وقد كانت الوجبات الدسمة التي يشملها اللحم تُعطى للمعازيم كعَشاء بعد صلاة العِشاء، وفيها يبدأون بِعَدِّ الحضور ثم يقسمون العَشاء على قدر الحضور، وعند التقسيم يُعطى كل شخص عشاءه منفردًا، ويقوم الشخص الذي يقسِّم العشاء بإرسال شخص آخر يطل على الحضور، وعندما يُرسَل العشاء يصيح بصوت عالي يسمعه كل الحاضرين (رفَّاد) وا (1) (وفَّاد) ، وهذا السّؤال يعني هل الشخص المعني بالعشاء (رفَّاد) أي جاء بناءً على طلب صاحب البيت أم (وفَّاد) أي وفَد دون دعوة، وغالبًا ما يكون ذلك الوفّاد عابر سبيل أو شخص غريب أو مسكين أو غيرهم، لذلك يتم اختيار العشاء للرّفّاد بعناية أكثر من الوفّاد، وتُعطى لحمة (السّاعد) للعرسان ويُقال (من أجل أن يَسْعَدوا) ، ويحرصون على عدم تقديم بعض أجزاء من اللحم للضيوف الكبار، مثل ما يسمونه (الزُّقْلي) (2) و (الكتف) و (العُصْعُوص) (3) ، وهناك مثَل يافعي يقول: "مَن جاء بلا طُلَاب جلس في مجالس الكلاب". وعادة (الرِّفْد) في يافع قديمة جدًا متأصلة ومتعاقبة وهي سمة طيبة يتجلّى منها التكافل والتعاضد والتفريج عن المعسر حتى حين؛ لأن بعض أهالي العريس ربما لا يملك الدَّفْع (المهر) المطلوب كاملًا فتأتيه (الرّفيدة) ويكمل بها ما ينقصه، فلذلك تكون وسيلة الرّفْد أسهل بكثير؛ لأنها توفر على أهل العريس أشياء كثيرة وكبيرة، ولأن تسديدها فيما بعد يأتي على أوقات متباعدة ومتفاوتة. لكن رد الرّفْد يعدّ من الأمور التي لا حياد عنها ولا عذر فيها؛ لأنها سِمة من سمات الشرف، فلذلك تجد النّاس يحرصون على تسديد الرّفْد مهما كانت الظروف والأحوال، وحتى لو اضطر الشخص للسلف أو بيع شيء مما هو عنده. __________ (1) وا: حرف عطف في اللهجة الدارجة بمعنى أو. (2) الزُّقْلي: الجزء الأسفل من لحمة اليد، وهو قليل اللحم. (3) العصعوص: لحم أسفل الظَّهْر.
(1/105)
ومن النّوادر في هذا السّياق أن أحدهم كانت رفيدته (رَبْعة) (1) مملوءة بالسّمن البلدي؛ لأنه لم يكن لديه نقود أو غنم ليأتي بها (رَفيدة) ، فأقبل بذلك الوعاء المملوء بالسّمن وجلس بين الضيوف، وعادةً ما كان يُقدَّم (العصيد) مباشرة للشخص الآتي، فقدموا له العصيد وكان أكولًا مشهورًا بنهمه في الأكل وعدم الاكتفاء بالأكل القليل، فبدأ يأكل فصبَّوا له السّمن من (رَبْعة) أخرى غير التي جاء بها؛ لأن العادة تقتضي ذلك، وكلما صبَّوا له السّمن أجْهَز عليه مع العصيد، وظلَّ السّاكب يسكب حتى نفد ما في تلك (الرّبْعة) من سمن، فأحضروا له (الرّبْعَة) التي جاء بها فاستمر على هذا المنوال يأكل حتى فرغ ذلك الوعاء الذي أتى به، وهكذا أخذ رفيدته وأخذ مثلها في الوقت نفسه.
تابعونا ...
مع تحيات المؤلف:ناصر الكلدي