مسافة قابلة للطي



مسافة قابلة للطي

يافع الحدث / بسام الحروري

منذ أن ارتد الحجر من أعالي شجرة السدر إلى راسي أثناء محاولتي إسقاط ثمرة (الدوم) ليصبغ بعض شعري باللون الاحمر، 
منذ ذاك وأنا أضع مسافه بيني وبين الاشجار 
ولم يختلف الأمر كثيرا ،فمنذ نعومة أظفاري أوصتني أمي وهي تمشط شعري المنسدل على ناصيتي وتودعني ذاهبا إلى مدرستي
أن أتجنب الحديث إلى الغرباء ومنذها وأنا أضع مسافة بيني وبين الغريب
لكن ثمة مسافة كانت تتضاءل حد التلاشي بيني وبين مخلوقة رقيقة كانت تخصني بعلبة ألوانها دون غيري وتحكي لي قصص الطفولة من كتبها التي كانت تعيرني بعضها وتهديني البعض الٱخر في الفصل الثاني الإبتدائي، الأمر الذي أثار حنق وغيرة اقراني في ذات الفصل إذ لم يحضوا بما حضيت به فضاعف ذلك المسافة بيني وبينهم 
حينها فقط بدأ تعلقي بالكتب يلغي المسافة الكامنة بيني وبين ألعاب الطفولة وتولدت بيني وبين الكتب علاقة عشق أزلي كما ألغى وجود ٱلة الإكسليفون  في الحفلات التي تقيمها المدرسة المسافة بيني وبين الموسيقى وزادت من تعلقي بها 

لكن المسافة تزايدت وتزايدت حد الغياب ، حين تركت فاتنتي الصغيرة مدرسة القرية  راحلة إلى المدينة، حينها فقط لم تعد تهمني كل مسافات الدنيا بالقدر الذي كان همي كيف أقطع مسافتنا القاتلة!  نعم القاتلة

كانت تلك المسافة أقوى وأصلب مما توقعت ،وتملكتني فوق حدود المعقول حتى جعلت أهيم على وجهي مرتشفا رحيق الأمكنة التي مررنا بها واستوقفتنا مطارحها ،

المسافة أييييه أيتها المسافة..
 كانت الخيط الذي شددته وأرخيته حينا وقطعته و قطعني في أحايين كثيرة 
ولربما كونت ذات المسافة لدي قناعات شخصية واقترح علي عقلي الباطن بتسمية تلك القناعات (بنظرية الفسيفسا) 
تجاه مقاييس الجمال 

وقد نشاءت هذه النظرية نتيجة لوحة فسيفساء كبيرة تتواجد في الكلية خاصتي  مكونة من  قطع من الحجارة الملونة تشكل لوحة فنية بديعه
فكان ابتعادي عنها بتخصيص مسافة أكبر بيني وبينها يزيد من جماليتها وتتضح لدي الرؤية حيالها لكني بالمقابل حين أقصر المسافة بيني وبينها أكتشف عيوبها وتغدو لدي مجرد قطع من الحجارة مرصوصة بطريقة أنيقة ليس إلا، 
وهي المسافة ذاتها التي علمتنا إياها أستاذتنا الفنانة التشكيلية في أحد المعارض الذي كان يقيمه معهد الفنون التشكيلية عند التحاقي به بعد تخرجي من الكلية في كيفية التعامل مع أي لوحة فنية ومن اي مسافة نتفحصها لنستمتع بجمالها، 
ومن هنا عممت هذه القناعات وأسقطتها على جمال المرأة، وبالفعل لاحظت هذه الميزة عند الاقتراب والتفحص في وجه فاتنة ما تنماز بجمال صارخ فسرعان ماتقترب حتى تتبدى لك عيوب هذا الجمال ومثالبه الكامن في التقاطيع والملامح بينما كانت المسافة المتباعدة تخفي لك هذه العيوب وتوهمك باكتمال الجمال !
فهل المسافة خادعة؟ وهل هي نفسها التي توهمنا بوجود واحات الصحراء أومايسمى بالسراب ؟ 

ترى كيف تولدت المسافة وكيف ناسخت ذاتها وسنت قوانينها المتقلبة وفرضياتها الآيلة إلى حقائق علمية أو العكس ، 
وهل المسافة لعنة أم منحة تساق إلى الكائنات أم تساق الكائنات إليها ؟
تباعدها وتقاربها ، تحركها خيوط القدر فتجفل متقاربة كخيل جموح حين يغرم خليل بخليله وتلمع كبرق يختال بضوءه على خائف واجف تقطعت به السبل حين يؤذن بانتهاء حكاية أسطورية ضاق بها متن كتاب وهو يرويها للأبد الرابض على صهوة صخرة تنوء به فتذعن له حيال تجلي مسافتها القاهرة 

مالذي يكتب المسافة؟ وهل هي عالية فتخفض، أو منخفضة فتعلو، وكيف تمتد تمتد حتى تخور فيزيائا أو صوفيا أمام خطب كاسر ؟
هكذا تواردت الأسئلة إلى خاطري بعدها باغتتني لحظة إشراقة وتنوير بددت من تلافيف الذاكرة بمسافتها العاتية كل التساؤلات المغيرة على خلدي ذات مسافة وخلصت إلى أن المسافة.....،

لكن... 
المسافة تملكتني مرة أخرى 
وعاودتني حوارية المسافات
فخيل إلي أن العالم بكائناته بدأ يتباعد عن بعضه شيئا فشيئا ويلغي دبيب الحياة 
وبدت المسافة الجائحة تغزو العالم فتخليه من كل مظاهر الحياة وتتربع مساحته كرقعة شطرنج تناثرت أحجارها لتسود المسافة.
أحدث أقدم